الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وأما المقام الرابع، وهو قولهم: إن القياس أو البرهان يفيد العلم بالتصديقات، فهو أدق المقامات. وذلك أن خطأ المنطقيين في المقامات الثلاثة ــ وهي منع إمكان التصور إلا بالحد، وحصول التصور بالحد، ومنع حصول التصديق بالحد،ومنع حصول التصديق بالقياس ــ واضح بأدنى تدبر، ومدركه قريب، والعلم به ظاهر. وإنما يلبسون على الناس بالتهويل والتطويل، وأظهرها خطأ دعواهم أن التصورات المطلوبة لا تحصل إلا بما ذكروه من الحد، ويليه قولهم: إن شيئًا من التصديقات المطلوبة لا تنال إلا بما ذكروه من القياس، فإن هذا النفي العام أمر لا سبيل إلى العلم به، ولا يقوم عليه دليل أصلًا، مع أنه معلوم البطلان بما يحصل من التصديقات المطلوبة بدون ما ذكروه من القياس، كما تحصل تصورات مطلوبة بدون ما يذكرونه من الحد، بخلاف هذا المقام / الرابع فإن كون القياس المؤلف من المقدمتين يفيد النتيجة، هو أمر صحيح في نفسه. لكن الذي بينه نظار المسلمين في كلامهم على هذا المنطق اليوناني المنسوب إلى أرسطو، أن ما ذكروه من صور القياس ومواده ـ مع كثرة التعب العظيم ـ ليس فيه فائدة علمية، بل كل ما يمكن علمه بقياسهم يمكن علمه بدون قياسهم، فلم يكن في قياسهم ما يحصل العلم بالمجهول الذي لا يعلم بدونه، ولا حاجة إلى ما يمكن العلم بدونه، فصار عديم التأثير في العلم وجودًا وعدما، وفيه تطويل كثير متعب، فهو مع أنه لا ينفع في العلم فيه إتعاب الأذهان وتضييع الزمان، وكثرة الهذيان، والمطلوب من الأدلة والبراهين بيان العلم ،وبيان الطرق المؤدية إلى العلم. قالوا: وهذا لا يفيد العلم المطلوب، بل قد يكون من الأسباب المعوقة له؛ لما فيه من كثرة تعب الذهن، كمن يريد أن يسلك الطريق ليذهب إلى مكة أو غيرها من البلاد، فإذا سلك الطريق المستقيم المعروف، وصل في مدة قريبة بسعي معتدل، فإذا قيض له من يسلك به التعاسيف - والعسف في اللغة الأخذ على غير طريق بحيث يدور به طرقًا دائرة ويسلك به مسالك منحرفة- فإنه يتعب تعبًا كثيرًا، حتى يصل إلى الطريق المستقيمة إن وصل، وإلا فقد يصل إلى غير المطلوب. فيعتقد اعتقادات فاسدة، وقد يعجز بسبب / ما يحصل له من التعب والإعياء، فلا هو نال مطلوبه ولا هو استراح، هذا إذا بقى في الجهل البسيط، وهكذا هؤلاء. ولهذا حكى من كان حاضرًا عند موت أمام المنطقيين في زمانه الخونجي، أنه قال عند موته: أموت ولا أعلم شيئًا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى الواجب.ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت وما علمت شيئًا. فهذا حالهم إذا كان منتهى أحدهم الجهل البسيط، وأما من كان منتهاه الجهل المركب، فكثير. والواصل منهم إلى علم، يشبهونه بمن قيل له: أين أذنك؟ فأدار يده على رأسه، ومدها إلى أذنه بكلفة، وقد كان يمكنه أن يوصلها إلى أذنه من تحت رأسه؛ وهو أقرب وأسهل. والأمور الفطرية متى جعل لها طرق غير الفطرية، كان تعذيبًا للنفوس بلا منفعة لها، كما لو قيل لرجل: اقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية، فإن هذا ممكن بلا كلفة. فلو قال له قائل: اصبر، فإنه لا يمكنك القسمة حتى تعرف حدها ،وتميز بينها وبين الضرب، فإن القسمة عكس الضرب، فإن الضرب هو تضعيف آحاد أحد العددين بآحاد العدد الآخر، والقسمة توزيع أحاد العددين على آحاد العدد الآخر؛ ولهذا إذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه عاد المقسوم، وإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد المضروبين خرج المضروب الآخر. ثم يقال: ما ذكرته في حد الضرب لا يصح، فإنه إنما /يتناول ضرب العدد الصحيح دون المكسور، بل الحد الجامع لهما أن يقال: الضرب طلب جملة تكون نسبتها إلى أحد المضروبين كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر، فإذا قيل: اضرب النصف في الربع فالخارج هوالثمن، ونسبته إلى الربع كنسبة النصف إلى الواحد. فهذا وإن كان كلامًا صحيحًا، لكن من المعلوم أن من معه مال يريد أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية إذا ألزم نفسه ألا يقسمه حتى يتصور هذا كله، كان هذا تعذيبًا له بلا فائدة، وقد لا يفهم هذا الكلام، و قد تعرض له فيه إشكالات. فكذلك الدليل والبرهان هو المرشد إلى المطلوب، والموصل إلى المقصود، وكل ما كان مستلزمًا لغيره فإنه يمكن أن يستدل به عليه؛ ولهذا قيل: الدليل ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى علم أو ظن. فالمقصود أن كل ما كان مستلزمًا لغيره بحيث يكون ملزوما له، فإنه يكون دليلا عليه وبرهانًا له، سواء كانا وجوديين أو عدميين أو أحدهما وجوديًا والآخر عدميًا، فأبدًا الدليل ملزوم للمدلول عليه، والمدلول لازم للدليل. ثم قد يكون الدليل مقدمة واحدة متى علمت علم المطلوب، وقد يحتاج المستدل إلى مقدمتين، وقد يحتاج إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس وأكثر، ليس لذلك حد مقدر يتساوى فيه جميع الناس في جميع المطالب،بل ذلك / بحسب علم المستدل الطالب بأحوال المطلوب، والدليل، ولوازم ذلك، وملزوماته. فإذا قدر أنه قد عرف ما به يعلم المطلوب مقدمة واحدة، كان دليله الذي يحتاج إلى بيانه له تلك المقدمة، كمن علم أن الخمر محرم، وعلم أن النبيذ المتنازع فيه مسكر، لكن لم يعلم أن كل مسكر هو خمر، فهو لا يحتاج إلا إلى هذه المقدمة. فإذا قيل: ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مسكر خمر)، حصل مطلوبه، ولم يحتج إلى أن يقال: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر خمر. ولا أن يقال: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، فإن هذا كله معلوم له لم يكن يخفى عليه، إلا أن اسم الخمر هل هو مختص ببعض المسكرات كما ظنه طائفة من علماء المسلمين، أو هو شامل لكل مسكر، فإذا ثبت له عن صاحب الشرع أنه جعله عامًا لا خاصا حصل مطلوبه. وهذا الحديث في صحيح مسلم، ويروي بلفظين: (كل مسكر خمر)، و(كل مسكر حرام). ولم يقل: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام. كالنظم اليوناني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجل قدرًا في علمه وبيانه من أن يتكلم بمثل هذيانهم، فإنه إن قصد مجرد تعريف الحكم لم يحتج مع قوله إلى دليل. وإن قصد بيان الدليل كما بين الله في القرآن عامة المطالب الإلهية التي تقرر الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق، و أحسنهم بيانا له. فعلم أنه ليس جميع المطالب تحتاج إلى مقدمتين،ولا يكفي في جميعها / مقدمتان، بل يذكر ما يحصل به البيان والدلالة سواء كان مقدمة، أو مقدمتين، أو أكثر. وما قصد به هدى عام كالقرآن الذي أنزله الله بيانا للناس يذكر فيه من الأدلة ما ينتفع به الناس عامة، وهذا إنما يمكن بيان أنواعها العامة. وأما ما يختص به كل شخص فلا ضابط له حتى يذكر في كلام، بل هذا يزول بأسباب تختص بصاحبه كدعائه لنفسه ومخاطبة شخص معين له بما يناسب حاله، ونظره فيما يخص حاله ونحو ذلك. وأيضًا، فما يذكرونه من القياس لا يفيد العلم بشيء معين من الموجودات، ثم تلك الأمور الكلية يمكن العلم بكل واحد منها بما هو أيسر من قياسهم، فلا تعلم كلية بقياسهم إلا والعلم بجزئياتها ممكن بدون قياسهم، وربما كان أيسر، فإن العلم بالمعينات قد يكون أبين من العلم بالكليات، وهذا مبسوط في موضعه. والمقصود هنا: أن المطلوب هو العلم، والطريق إليه هو الدليل، فمن عرف دليل مطلوبه، عرف مطلوبه، سواء نظمه بقياسهم أم لا، ومن لم يعرف دليله لم ينفعه قياسهم، ولا يقال: إن قياسهم يعرف صحيح الأدلة من فاسدها، فإن هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم، فإن حقيقة قياسهم ليس فيه إلا شكل الدليل وصورته. وأما كون الدليل المعين مستلزمًا لمدلوله،فهذا ليس في قياسهم ما يتعرض / له بنفي ولا إثبات، وإنما هذا بحسب علمه بالمقدمات التي اشتمل عليها الدليل، وليس في قياسهم بيان صحة شيء من المقدمات ولا فسادها، وإنما يتكلمون في هذا إذا تكلموا في مواد القياس وهو الكلام في المقدمات من جهة ما يصدق بها، وكلامهم في هذا فيه خطأ كثير، كما نبه عليه في موضع آخر. والمقصود هنا أن الحقيقة المعتبرة في كل برهان ودليل في العالم هو اللزوم، فمن عرف أن هذا لازم لهذا، استدل بالملزوم على اللازم. وإن لم يذكر لفظ اللزوم ولا تصور معنى هذا اللفظ، بل من عرف أن كذا لابد له من كذا، أو أنه إذا كان كذا كان كذا، وأمثال هذا، فقد علم اللزوم. كما يعرف أن كل ما في الوجود آية لله، فإنه مفتقر إليه محتاج إليه، لابد له من محدث ،كما قال تعالى: وهو - سبحانه - ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار، ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس، لا يمكن لأحد إنكارها، فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث أحدثه، ولا يمكنه أن يقول: هذا أحدث نفسه. /وكثير من النظار يسلك طريقًا في الاستدلال على المطلوب، ويقول: لا يوصل إلى مطلوب إلا بهذا الطريق، ولا يكون الأمر كما قاله في النفي، وإن كان مصيبًا في صحة ذلك الطريق، فإن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج، يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا، وطرق الناس في معرفتها كثيرة. وكثير من الطرق لا يحتاج إليه أكثر الناس. وإنما يحتاج إليه من لم يعرف غيره. أو من أعرض عن غيره، وبعض الناس يكون كلما كان الطريق أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له؛ لأن نفسه اعتادت النظر في الأمور الدقيقة، فإذا كان الدليل قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به، ومثل هذا قد تستعمل معه الطرق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته، لا لكون العلم بالمطلوب متوقفًا عليها مطلقًا، فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات؛ ولهذا يرغب كثير من علماء السنة في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرائض والوصايا والدور وهو علم صحيح في نفسه. ثم قد ذكروا حساب المجهول الملقب بحساب الجبر والمقابلة في ذلك وهو علم قديم، لكن إدخاله في الوصايا والدور ونحو ذلك، أول من عرف أنه أدخله فيها محمد بن موسي الخوارزمي. وبعض الناس يذكر عن علي بن أبي طالب أنه تكلم فيه، وأنه تعلم ذلك من يهودي، وهذا كذب على علي. الدور الكوني: الذي يذكر في الأدلة العقلية أنه لا يكون هذا حتى يكون هذا، ولا يكون هذا حتى يكون هذا. وطائفة من النظار كانوا يقولون: هو ممتنع. والصواب أنه نوعان - كما يقوله الآمدي وغيره: [دور قبلي] و [دور معي]، فالقبلي ممتنع وهو الذي يذكر في العلل وفي الفاعل والمؤثر ونحو ذلك، مثل أن يقال: لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلًا للآخر؛ لأنه يفضي إلى الدور، وهو أنه يكون هذا قبل ذاك، وذاك قبل هذا.و[المعي] ممكن وهو دور الشرط مع المشروط،وأحد المتضايفين مع الآخر مثل: ألا تكون الأبوة إلا مع البنوة، ولا تكون البنوة إلا مع الأبوة. /النوع الثاني: الدور الحكمي الفقهي المذكور في المسألة السريجية وغيرها. وقد أفردنا فيه مؤلفًا، وبينا أنه باطل عقلا وشرعًا، وبينا هل في الشريعة شيء من هذا الدور أم لا؟ الثالث: الدور الحسابي: وهو أن يقال: لا يعلم هذا حتى يعلم هذا، فهذا هو الذي يطلب حله بالحساب والجبر والمقابلة. وقد بينا أنه يمكن الجواب عن كل مسألة شرعية جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم بدون حساب الجبر والمقابلة. وإن كان حساب الجبر والمقابلة صحيحًا، فنحن قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلا، وإن كان طريقًا صحيحًا، بل طرق الجبر والمقابلة فيها تطويل، يغني الله عنه بغيره كما ذكرنا في المنطق. وهكذا كل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم ،مثل العلم بجهة القبلة، والعلم بمواقيت الصلاة، والعلم بطلوع الفجر والعلم بالهلال، فكل هذا يمكن العلم به بالطرق التي كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يسلكونها ولا يحتاجون معها إلى شيء آخر. وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقًا أخر. وكثير منهم يظن أنه لا يمكن معرفة الشريعة إلا بها. وهذا من جهلهم، كما يظن طائفة من الناس أن العلم بالقبلة لا يمكن إلا بمعرفة أطوال البلاد وعروضها، وهو وإن كان علما صحيحًا حسابيًا يعرف بالعقل، لكن معرفة المسلمين بقبلتهم ليست موقوفة على هذا، بل قد ثبت عن صاحب الشرع / صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) قال الترمذي: حديث [حسن] صحيح. ولهذا كان عند جماهير العلماء أن المصلي ليس عليه أن يستدل بالقطب ولا بالجدي ولا غير ذلك، بل إذا جعل من في الشام ونحوها المغرب عن يمينه والمشرق عن شماله صحت صلاته. وكذلك لا يمكن ضبط وقت طلوع الهلال بالحساب، فإنهم وإن عرفوا أن نور القمر مستفاد من الشمس، وأنه إذا اجتمع القرصان عند الاستسرار لا يرى له ضوء، فإذا فارق الشمس صار فيه النور، فهم أكثر ما يمكنهم أن يضبطوا بالحساب كم بعده عند غروب الشمس عن الشمس. هذا إذا قدر صحة تقويم الحساب وتعديله، فإنهم يسمونه علم التقويم والتعديل؛ لأنهم يأخذون أعلى مسير الكواكب وأدناه فيأخذون معدله، فيحسبونه فإذا قدر أنهم حزروا ارتفاعه عند مغيب الشمس، لم يكن في هذا ما يدل على ثبوت الرؤية ولا انتفائها؛ لأن الرؤية أمر حسي لها أسباب متعددة من صفاء الهواء وكدره، وارتفاع النظر وانخفاضه، وحدة البصر وكلاله، فمن الناس من لا يراه، ويراه من هو أحد بصرًا منه ونحو ذلك. فلهذا كان قدماء علماء "الهيئة" كبطليموس صاحب المجسطي وغيره، لم يتكلموا في ذلك بحرف، وإنما تكلم فيه بعض المتأخرين مثل كوشيار الديلمي ونحوه، لما رأوا الشريعة جاءت باعتبار الرؤية، فأحبوا أن يعرفوا ذلك، بالحساب / فضلوا وأضلوا. ومن قال: إنه لا يري على اثنتى عشرة درجة أو عشر ونحو ذلك، فقد أخطأ؛ فإن من الناس من يراه على أقل من ذلك، ومنهم من لا يراه على ذلك، فلا العقل اعتبروا ولا الشرع عرفوا؛ ولهذا أنكر ذلك عليهم حذاق صناعتهم. ثم قال: فصورة القياس لا تدفع صحتها،لكن نبين أنه لا يستفاد به علم بالموجودات. كما أن اشتراطهم للمقدمتين دون الزيادة والنقص شرط باطل، فهو وإن حصل به يقين فلا يستفاد بخصوصه يقين مطلوب بشيء من الموجودات. فنقول: إن صورة القياس إذا كانت مواده معلومة لا ريب أنه يفيد اليقين، فإذا قيل: كل أ: ب، وكل ب: ج، وكانت المقدمتان معلومتين، فلا ريب أن هذا التأليف يفيد العلم بأن كل أ: ج، لكن يقال: ما ذكروه من كثرة الأشكال وشرط نتاجها تطويل قليل الفائدة كثير التعب. فإنه متى كانت المادة صحيحة، أمكن تصويرها بالشكل الأول الفطري، فبقية الأشكال لا يحتاج إليها، وهي إنما تفيد بالرد إلى الشكل الأول، إما بإبطال النقيض الذي يتضمنه قياس الخلف، وإما بالعكس المستوى، أو عكس النقيض، فإن ثبوت أحد المتناقضين يستلزم نفي الآخر، إذا رد على التناقض من كل وجه. فهم يستدلون بصحة القضية على بطلان نقيضها، وعلى ثبوت عكسها المستوى وعكس نقيضها، بل تصور الذهن / لصورة الدليل يشبه حساب الإنسان لما معه من الرقيق والعقار، والفطرة تتصور القياس الصحيح من غير تعليم، والناس بفطرهم يتكلمون بالأنواع الثلاثة التداخل والتلازم والتقسيم، كما يتكلمون بالحساب ونحوه، والمنطقيون قد يسلمون ذلك. والحاصل أنا لا ننكر أن القياس يحصل به علم إذا كانت مواده يقينية، لكن نقول: إن العلم الحاصل به لا يحتاج فيه إلى القياس المنطقي، بل يحصل بدون ذلك، فلا يكون شيء من العلم متوقفًا على هذا القياس. ثم المواد اليقينية التي ذكروها لا يحصل بها علم بالأمور الموجودة، فلا يحصل بها مقصود تزكو به النفوس، بل ولا علم بالحقائق الموجودة في الخارج على ما هي عليه إلا من جنس ما يحصل بقياس التمثيل، فلا يمكن قط أن يتحصل بالقياس الشمولي المنطقي الذي يسمونه البرهاني علم إلا وذلك يحصل بقياس التمثيل الذي يستضعفونه؛ فإن ذلك القياس لابد فيه من قضية كلية. والعلم بكون الكلية كلية لا يمكن الجزم به إلا مع الجزم بتماثل أفراده في القدر المشترك، وهذا يحصل بقياس التمثيل، ونحن نبين ذلك بوجوه: الأول: أن المواد اليقينية قد حصروها في الأصناف المعروفة عندهم. /أحدها: الحسيات، ومعلوم أن الحس لا يدرك أمرًا كليًا عامًا، أصلا فليس في الحسيات المجردة قضية كلية عامة تصلح أن تكون مقدمة في البرهان اليقيني، وإذا مثلوا ذلك بأن النار تحرق ونحو ذلك، لم يكن لهم علم بعموم هذه القضية، وإنما معهم التجربة والعادة التي هي من جنس قياس التمثيل. وإن علم ذلك بواسطة اشتمال النار على قوة محرقة، فالعلم بأن كل نار لابد فيها من هذه القوة، هو ـ أيضًا ـ حكم كلي، وإن قيل: إن الصورة النارية لابد أن تشتمل على هذه القوة. وأن ما لا قوة فيه ليس بنار، فهذا الكلام إن صح لا يفيد الجزم بأن كل ما فيه هذه القوة يحرق ما لاقاه، وإن كان هذا هو الغالب، فهذا يشترك فيه قياس التمثيل والشمول والعادة والاستقراء الناقص ـ إذا سلم لهم ذلك ـ كيف وقد علم أنها لا تحرق السمندل والياقوت والأجسام المطلية بأمور مصنوعة؟! ولا أعلم في القضايا الحسية كلية لا يمكن نقضها، مع أن القضية الكلية ليست حسية، وإنما القضية الحسية: أن هذه النار تحرق، فإن الحس لا يدرك إلا شيئًا خاصًا. وأما الحكم العقلي، فيقولون: إن النفس عند رؤيتها هذه المعينات مستعدة لأن تفيض عليها قضية كليه بالعموم، ومعلوم أن هذا من جنس قياس التمثيل، ولا يوثق بعمومه إن لم يعلم أن الحكم العام لازم للقدر المشترك. وهذا إذا علم، علم في جميع المعينات، فلم يكن العلم بالمعينات موقوفًا على هذا، مع أنه ليس من القضايا العاديات قضية كلية لا يمكن نقضها باتفاق العقلاء. /الثاني: الوجدانيات الباطنية، كإدراك كل أحد جوعه وألمه ولذته، وهذه كلها جزئيات، بل هذه لا يشترك الناس في إدراك كل جزئي منها، كما قد يشتركون في إدراك بعض الحسيات المنفصلة كالشمس والقمر، ففيها من الخصوص في المدرك، والمدرك ما ليس في الحسيات المنفصلة، وإن اشتركوا في نوعها فهي تشبه العاديات، ولم يقيموا حجة على وجوب تساوي النفوس في هذه الأحوال، بل ولا على النفس الناطقة، أنها مستوية الأفراد. الثالث: المجربات: وهي كلها جزئية، فإن التجربة إنما تقع على أمور معينة. وكذلك [المتواترات]، فإن المتواتر إنما هو ما علم بالحس من مسموع أو مرئي. فالمسموع قول معين، والمرئي جسم معين أو لون معين أو عمل معين أو أمر معين. وأما [الحدسيات] إن جعلت يقينية، فهي نظير المجربات؛ إذ الفرق بينهما لا يعود إلى العموم والخصوص، وإنما يعود إلى أن [المجربات] تتعلق بما هو من أفعال المجربين، والحدسيات تكون عن أفعالهم، وبعض الناس يسمى الكل تجريبيات فلم يبق معهم إلا الأوليات التي هي البديهيات العقلية، والأوليات الكلية إنما هي قضايا مطلقة في الأعداد والمقادير ونحوها مثل قولهم: الواحد نصف الاثنين، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك، وهذه مقدرات في الذهن ليست في الخارج كلية. /فقد تبين أن القضايا الكلية البرهانية، التي يجب القطع بكليتها التي يستعملونها في قياسيهم لا تستعمل في شيء من الأمور الموجودة، وإنما تستعمل في مقدرات ذهنية، فإذن لايمكنهم معرفة الأمور الموجودة بالقياس البرهاني، وهذا هو المطلوب؛ ولهذا لم يكن لهم علم بحصر أقسام الموجود، بل أرسطو لما حصر أجناس الموجودات في [المقولات العشر]: الجوهر، والكم، والكيف، والآين، ومتى، والوضع، وأن يفعل، وأن ينفعل، والملك، والإضافة، اتفقوا على أنه لا سبيل إلى معرفة صحة هذا الحصر. الوجه الثاني: أن يقال: إذا كان لابد في كل قياس من قضية كلية، فتلك القضية الكلية لابد أن تنتهي إلى أن تعلم بغير قياس، وإلا لزم الدور والتسلسل، فإذا كان لابد أن تكون لهم قضايا كلية معلومة بغير قياس، فنقول: ليس في الموجودات ما تعلم له الفطرة قضية كلية بغير قياس، إلا وعلمها بالمفردات المعينة من تلك القضية الكلية أقوى من علمها بتلك القضية الكلية، مثل قولنا: الواحد نصف الاثنين، والجسم لا يكون في مكانين، والضدان لا يجتمعان، فإن العلم بأن هذا الواحد نصف الاثنين في الفطرة أقوى من العلم بأن كل واحد نصف كل اثنين، وهكذا كل ما يفرض من الآحاد. فيقال: المقصود بهذه القضايا الكلية إما أن يكون العلم بالموجود الخارجي،/ أو العلم بالمقدرات الذاهنية، أما الثاني ففائدته قليلة، وأما الأول فما من موجود معين إلا وحكمه بعلم تعينه أظهر وأقوى من العلم به عن قياس كلي يتناوله، فلا يتحصل بالقياس كثير فائدة، بل يكون ذلك تطويلا، وإنما استعمل القياس في مثل ذلك لأجل الغالط والمعاند، فيضرب له المثل وتذكر الكلية ردًا لغلطه وعناده بخلاف من كان سليم الفطرة. وكذلك قولهم: الضدان لا يجتمعان، فأي شيئين علم تضادهما، فإنه يعلم أنهما لا يجتمعان قبل استحضار قضية كلية بأن كل ضدين لا يجتمعان، وما من جسم معين إلا يعلم أنه لا يكون في مكانين قبل العلم بأن كل جسم لا يكون في مكانين، وأمثال ذلك كثير. فما من معين مطلوب علمه بهذه القضايا الكلية إلا وهو يعلم قبل أن تعلم هذه القضية، ولا يحتاج في العلم به إليها، وإنما يعلم بها ما يقدر في الذهن من أمثال ذلك مما لم يوجد في الخارج. وأما الموجودات الخارجية فتعلم بدون هذا القياس. وإذا قيل: أن من الناس من يعلم بعض الأعيان الخارجية بهذا القياس، فيكون مبناه على قياس التمثيل الذي ينكرون أنه يقيني. فهم بين أمرين: إن اعترفوا بأن قياس التمثيل من جنس قياس الشمول ينقسم إلى يقيني وظني، بطل تفريقهم، وإن ادعوا الفرق بينهما وأن قياس الشمول يكون يقينيا دون التمثيل منعوا ذلك، وبين لهم أن اليقين لا يحصل / في هذه الأمور إلا أن يحصل بالتمثيل، فيكون العلم بما لم يعلم من المفردات الموجودة في الخارج قياسًا على ما علم منها، وهذا حق لا ينازع فيه عاقل، بل هذا من أخص صفات العقل التي فارق بها الحس؛ إذ الحس لا يعلم إلا معينًا، والعقل يدركه كليًا مطلقًا، لكن بواسطة التمثيل، ثم العقل يدركها كلها مع عزوب الأمثلة المعينة عنه، لكن هي في الأصل إنما صارت في ذهنه كلية عامة بعد تصوره لأمثال معينة من أفرادها، وإذا بعد عهد الذهن بالمفردات المعينة، فقد يغلط كثيرًا بأن يجعل الحكم إما أعم وإما أخص، وهذا يعرض للناس كثيرًا؛ حيث يظن أن ما عنده من القضايا الكلية صحيح، ويكون عند التحقيق ليس كذلك، وهم يتصورون الشيء بعقولهم، ويكون ما تصوروه معقولا بالعقل، فيتكلمون عليه، ويظنون أنهم تكلموا في ماهية مجردة بنفسها من حيث هي هي، من غير أن تكون ثابتة في الخارج ولا في الذهن، فيقولون: الإنسان من حيث هو هو، والوجود من حيث هو هو، والسواد من حيث هو هو، ونحو ذلك . ويظنون أن هذه الماهية التي جردوها عن جميع القيود السلبية والثبوتية محققة في الخارج على هذا التجريد، وذلك غلط، كغلط أوليهم فيما جردوه من العدد والمثل الأفلاطونية وغيرها، بل هذه المجردات لا تكون إلا مقدرة في الذهن، وليس كل ما فرضه الذهن أمكن وجوده في الخارج، وهذا الذي يسمى الإمكان الذهني، فإن الإمكان على وجهين: /ذهني: وهو أن يعرض الشيء على الذهن فلا يعلم امتناعه، بل يقول يمكن هذا، لا لعلمه بإمكانه، بل لعدم علمه بامتناعه مع أن ذلك الشيء قد يكون ممتنعًا في الخارج. وخارجي: وهو أن يعلم إمكان الشيء في الخارج، وهذا يكون بأن يعلم وجوده في الخارج أو وجود نظيره، أو وجود ما هو أبعد عن الوجود منه. فإذا كان الأبعد عن قبول الوجود موجودًا ممكن الوجود، فالأقرب إلى الوجود منه أولى. وهذه طريقة القرآن في بيان [إمكان المعاد]؛ فقد بين ذلك بهذه الطريقة، فتارة يخبر عمن أماتهم ثم أحياهم، كما أخبر عن قوم موسى الذين قالوا: وتارة يستدل على ذلك بالنشأة الأولى؛ فإن الإعادة أهون من الابتداء، كما في قوله: وتارة يستدل على ذلك بخلق السموات والأرض، فإن خلقهما أعظم من إعادة الإنسان كما في قوله: وتارة يستدل على إمكانه بخلق النبات، كما في قوله: فقد تبين أن ما عند أئمة النظار أهل الكلام والفلسفة من الدلائل العقلية على المطالب الإلهية، فقد جاء القرآن الكريم بما فيها من الحق، وما هو أبلغ وأكمل منها على أحسن وجه، مع تنزهه عن الأغاليط الكثيرة الموجودة عند هؤلاء، فإن خطأهم فيها كثير جدًا، ولعل ضلالهم أكثر من هداهم، وجهلهم أكثر من علمهم؛ ولهذا قال أبو عبد الله الرازي في آخر عمره في كتابه: [أقسام الذات] لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: /والمقصود أن الإمكان الخارجي يعرف بالوجود لا بمجرد عدم العلم بالامتناع، كما يقوله طائفة ـ منهم الآمدي ـ وأبعد من إثباته الإمكان الخارجي بالإمكان الذهني، ما يسلكه المتفلسفة ـ كابن سينا ـ في إثبات الإمكان الخارجي بمجرد إمكان تصوره في الذهن، كما أنهم لما أرادوا إثبات موجود في الخارج معقول لا يكون محسوسًا بحال. استدلوا على ذلك بتصور الإنسان الكلي المطلق المتناول للأفراد الموجودة في الخارج، وهذا إنما يفيد إمكان وجود هذه المعقولات في الذهن، فإن الكلي لا يوجد كليًا إلا في الذهن، فأين طرق هؤلاء في إثبات الإمكان الخارجي من طريقة القرآن؟! ثم إنهم يمثلون بهذه الطرق الفاسدة، يريدون خروج الناس عما فطروا عليه من المعارف اليقينية والبراهين العقلية، وما جاءت به الرسل من الأخبار الإلهية عن الله واليوم الآخر، ويريدون أن يجعلوا مثل هذه القضايا الكاذبة، والخيالات الفاسدة أصولا عقلية يعارض بها ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه من الآيات،وما فطر الله عليه عباده، وما تقوم عليه الأدلة العقلية التي لا شبهة فيها، وأفسدوا بأصولهم العلوم العقلية والسمعية، فإن مبنى العقل على صحة الفطرة وسلامتها، ومبنى السمع على تصديق الأنبياء- صلوات الله عليهم- ثم الأنبياء - صلوات الله عليهم - كملوا للناس الأمرين، فدلوهم على الأدلة العقلية التي بها تعلم المطالب التي يمكنهم علمهم بها بالنظر والاستدلال، وأخبروهم مع ذلك من تفاصيل الغيب بما يعجزون عن معرفته بمجرد نظرهم واستدلالهم. / وقد ألفت كتاب [دفع تعارض الشرع والعقل]؛ ولهذا لما كانوا يتصورون في أذهانهم ما يظنون وجوده في الخارج كان أكثر علومهم مبنيًا على ذلك في [الإلهي] و[الرياضي] وإذا تأمل الخبير بالحقائق كلامهم في أنواع علومهم، لم يجد عندهم علمًا بمعلومات موجودة في الخارج إلا القسم الذي يسمونه [الطبيعي]، وما يتبعه من [الرياضي]. وأما [الرياضي] المجرد في الذهن، فهو الحكم بمقادير ذهنية لا وجود لها في الخارج.والذي سموه [علم ما بعد الطبيعة] ـ إذا تدبرـ / لم يوجد فيه علم بمعلوم موجود في الخارج، وإنما تصوروا أمورًا مقدرة في أذهانهم لا حقيقة لها في الخارج؛ ولهذا منتهى نظرهم وآخر فلسفتهم وحكمتهم هو الوجود المطلق الكلي، والمشروط بسلب جميع الأمور الوجودية. والمقصود أنهم كثيرًا ما يدعون في المطالب البرهانية والأمور العقلية، ما يكونون قدروه في أذهانهم. ويقولون: نحن نتكلم في الأمور الكلية والعقليات المحضة، وإذا ذكر لهم شيء قالوا: نتكلم فيما هو أعم من ذلك، وفي الحقيقة من حيث هي هي، ونحو هذه العبارات، فيطالبون بتحقيق ما ذكروه في الخارج، ويقال: بينوا هذا أي شيء هو؟ فهنالك يظهر جهلهم، وأن ما يقولونه هو أمر مقدر في الأذهان لا حقيقة له في الأعيان. مثل أن يقال لهم: اذكروا مثال ذلك، والمثال أمر جزئي، فإذا عجزوا عن التمثيل، وقالوا: نحن نتكلم في الأمور الكلية، فاعلم أنهم يتكلمون بلا علم، وفيما لا يعلمون أن له معلومًا في الخارج، بل فيما ليس له معلوم في الخارج، وفيما يمتنع أن يكون له معلوم في الخارج، وإلا فالعلم بالأمور الموجودة إذا كان كليا كانت معلوماته ثابتة في الخارج. وقد كان الخسروشاهي من أعيانهم ومن أعيان أصحاب الرازي، وكان يقول: ما عثرنا إلا على هذه الكليات، وكان قد وقع في حيرة وشك حتى كان يقول: والله ما أدري ما أعتقد! والله ما أدري ما أعتقد! /والمقصود أن الذي يدعونه من الكليات، هو إذا كان علمًا، فهو مما يعرف بقياس التمثيل، لا يقف على القياس المنطقي الشمولي أصلا، بل ما يدعون ثبوته بهذا القياس، تعلم أفراده التي يستدل عليها بدون هذا القياس، وذلك أيسر وأسهل، ويكون الاستدلال عليها بالقياس الذي يسمونه البرهاني استدلالا على الأجلى بالأخفى، وهم يعيبون في صناعة الحد أن يعرف الجلي بالخفي، وهذا في صناعة البرهان أشد عيبًا، فإن البرهان لا يراد به إلا بيان المدلول عليه وتعريفه وكشفه وإيضاحه، فإذا كان هو أوضح وأظهر، كان بيانًا للجلي بالخفي. قال: ثم إن الفلاسفة أصحاب هذا المنطق البرهاني الذي وضعه أرسطو وما يتبعه من الطبيعي والإلهي ليسوا أمة واحدة، بل أصناف متفرقون، وبينهم من التفرق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله، أعظم مما بين الملة الواحدة كاليهود والنصارى أضعافًا مضاعفة؛ فإن القوم كلما بعدوا عن اتباع الرسل والكتب كان أعظم في تفرقهم واختلافهم، فإنهم يكونون أضل، كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل). ثم قرأ قوله تعالى: وقد بين الله في كتابه من الأمثال المضروبة والمقاييس العقلية ما يعرف به الحق والباطل، وأمر الله بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، وأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، فقال: وأما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره أحد، وقد ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات، [مقالات غير الإسلاميين]، فأتى بالجم الغفير سوى ما ذكره الفارابي وابن سينا، وكذلك القاضي أبو بكر ابن الطيب في كتاب [الدقائق] الذي رد فيه على الفلاسفة والمنجمين، ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان. وكذلك متكلمة المعتزلة والشيعة وغيرهم في ردهم على الفلاسفة، وصنف الغزالي كتاب [التهافت] في الرد عليهم. ومازال نظار المسلمين يصنفون في الرد عليهم في المنطق،ويبينون خطأهم / فيما ذكروه في الحد والقياس جميعًا، كما يبينون خطأهم في الإلهيات وغيرها، ولم يكن أحد من نظار المسلمين يلتفت إلى طريقهم، بل الأشعرية والمعتزلة والكرَّامية والشيعة وسائر الطوائف من أهل النظر كانوا يعيبونها، ويبينون فسادها، وأول من خلط منطقهم بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي، وتكلم فيه علماء المسلمين بما يطول ذكره. وهذا الرد عليهم مذكور في كثير من كتب الكلام. وفي كتاب [الآراء والديانات] لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختي فصل جيد من ذلك؛ فإنه بعد أن ذكر طريقة أرسطو في المنطق قال: /قالوا: فنقول: إنه لابد من مقدمتين، فإذا ذكرت إحداهما استغنى بمعرفة المخاطب عن الأخرى فترك ذكرها؛ لأنه مستغن عنها. قلنا: لسنا نجد مقدمتين كليتين يستدل بهما على صحة نتيجة؛ لأن القائل إذا قال: الجوهر لكل حي، والحياة لكل إنسان، فتكون النتيجة: إن الجوهر لكل إنسان، فسواء في العقول قول القائل: الجوهر لكل حي، وقوله: لكل إنسان، ولا يجدون من المطالب العملية أن المطلوب يقف على مقدمتين بينتين بأنفسهما، وإذا كان الأمر كذلك، كانت إحداهما كافية. ونقول لهم: أرونا مقدمتين أوليين لا تحتاجان إلى برهان يتقدمهما، يستدل بهما على شيء مختلف فيه، وتكون المتقدمتان في العقول أولى بالقبول من النتيجة،فإذا كنتم لا تجدون ذلك بطل ما ادعيتموه. قال النوبختى: وقد سألت غير واحد من رؤسائهم أن يوجدنيه فما أوجدنيه فما ذكره أرسطاطاليس غير موجود ولا معروف. قال: فأما ما ذكره بعد ذلك من الشكلين الباقيين فهما غير مستعملين على ما بناهما عليه، وإذا كانا يصحان، بقلب مقدمتيهما حتى يعودا إلى الشكل الأول، فالكلام في الشكل الأول هو الكلام فيها. انتهى. قال ابن تيمية: ومقصوده أن سائر الأشكال إنما تنتج بالرد إلى الشكل الأول على ما تقدم بيانه فسائر الأشكال ونتاجها فيه كلفة ومشقة، مع أنه لا حاجة إليها، فإن الشكل الأول يمكن أن يستعمل جميع المواد الثبوتية والسلبية / الكلية والجزئية. وقد علم انتفاء فائدته فانتفاء فائدة فروعه التي لا تفيد إلا بالرد إليه أولى وأحرى. والمقصود أن هذه الأمة ـ ولله الحمد ـ لم يزل فيها من يتفطن لما في كلام أهل الباطل من الباطل ويرده. وهم لما هداهم الله به يتوافقون في قبول الحق ورد الباطل رأيًا ورواية من غير تشاعر ولا تواطؤ. وهذا الذي نبه عليه هؤلاء النظار يوافق ما نبهنا عليه، ويبين أنه يمكن الاستغناء عن القياس المنطقي، بل يكون استعماله تطويلا وتكثيًرا للفكر والنظر، والكلام بلا فائدة. الوجه الثالث: أن القضايا الكلية العامة لا توجد في الخارج كلية عامة، وإنما تكون كلية في الأذهان لا في الأعيان. وأما الموجودات في الخارج، فهي أمور معينة، كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشركه فيها غيره، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالقياس على خصوص وجود معين، وهم معترفون بذلك وقائلون أن القياس لا يدل على أمر معين، وقد يعبرون عن ذلك بأنه لا يدل على جزئي وإنما يدل على كلي. فإذن القياس لا يفيد معرفة أمر موجود بعينه. وكل موجود فإنما هو موجود بعينه فلا يفيد معرفة شيء من حقائق الموجودات، وإنما يفيد أمورًا كلية مطلقة مقدرة في الأذهان لا محققة في الأعيان، فما يذكره النظار من الأدلة القياسية التي يسمونها براهين على إثبات الصانع سبحانه، لا يدل شيء منها على عينه، وإنما يدل على أمر مطلق لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. /فإذا قال: هذا محدث، وكل محدث فلابد له من محدث، إنما يدل هذا على محدث مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإنما تعلم عينه بعلم آخر يجعله الله في القلوب. وهم معترفون بهذا؛ لأن النتيجة لا تكون أبلغ من المقدمات والمقدمات فيها قضية كلية لابد من ذلك، والكلي لا يدل على معين، وهذا بخلاف ما يذكره الله في كتابه من الآيات كقوله تعالى: الوجه الرابع: أن الحد الأوسط المكرر في قياس الشمول وهو الخمر من قولك: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام هو مناط الحكم في قياس التمثيل، وهو القدر المشترك الجامع بين الأصل والفرع، فالقياسان متلازمان، كل ما علم بهذا القياس، يمكن علمه بهذا القياس، ثم إن كان الدليل قطعيًا فهو قطعي في القياسين، أو ظنيًا فظني فيهما. وأما دعوى من يدعي من المنطقيين وأتباعهم أن اليقين إنما يحصل بقياس الشمول دون قياس التمثيل، فهو قول في غاية الفساد. وهو قول / من لم يتصور حقيقة القياسين. وقد يعلم بنص: أن كل مسكر حرام، كما ثبت في الحديث الصحيح، وإذا كان كذلك، لم يتعين قياس الشمول لإفادة الحكم بل ولا قياس من الأقيسة؛ فإنه قد يعلم بلا قياس، فبطل قولهم لا علم تصديقي إلا بالقياس المنطقي كما تقدم. والمقصود هنا بيان قلة منفعته أو عدمها، فإن المطلوب إن كان ثم قضية علمت من جهة الرسول تفيد العموم، وهو أن كل مسكر حرام حصل مدعاه، فالقضايا الكلية المتلقاة عن الرسول تفيد العلم في المطالب الإلهية، وأما ما يستفاد من علومهم فالقضايا الكلية فيه إما منتقضة وإما أنها بمنزلة قياس التمثيل، وإما أنها لا تفيد العلم بالموجودات المعينة، بل بالمقدرات الذهنية كالحساب والهندسة؛ فإنه وإن كان ذلك يتناول ما وجد على ذلك المقدار، فدخول المعين فيه لا يعلم بالقياس بل بالحس، فلم يكن القياس محصلا للمقصود أو تكون مما لا اختصاص لهم بها، بل يشترك فيها سائر الأمم بدون خطور منطقهم بالبال، مع استواء قياس التمثيل وقياس الشمول. وإثبات العلم بالصانع والنبوات ليس موقوفًا على الأقيسة، بل يعلم بالآيات الدالة على معين لا شركة فيه يحصل بالعلم الضروري الذي لا يفتقر إلى نظر، وما يحصل منها بالشمول فهو بمنزلة ما يحصل بالتمثيل أمر كلي، لا يحصل به العلم بما يختص به الرب، وما يختص به الرسول إلا بانضمام علم آخر إليه. /الوجه الخامس: أن يقال: هذا القياس الشمولي ـ وهو العلم بثبوت الحكم لكل فرد من الأفراد ـ فنقول: قد علم وسلموا أنه لابد أن يكون العلم بثبوت بعض الأحكام لبعض الأفراد بديهيًا؛ فإن النتيجة إذا افتقرت إلى مقدمتين فلابد أن ينتهي الأمر إلى مقدمتين تعلمان بدون مقدمتين، وإلا لزم الدور أو التسلسل الباطلان، وإذا فرض مقدمتان طريق العلم بهما واحد، لم يحتج إلى القياس كالعلم بأن كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس متحرك بالإرادة. فالعلم بأن كل إنسان متحرك بالإرادة، أبين وأظهر. فالمقدمتان إن كان طريق العلم بهما واحدًا. وقد علمتا فلا حاجة إلى بيانهما. وإن كان طريق العلم بهما مختلفا فمن لم يعلم إحداهما احتاج إلى بيانها ولم يحتج إلى بيان الأخرى التي علمها. وهذا ظاهر في كل ما يقدره. فتبين أن منطقهم يعطي تضييع الزمان وكثرة الهذيان وإتعاب الأذهان. الوجه السادس: لا ريب أن المقدمة الكبري أعم من الصغري أو مثلها، ولا تكون أخص منها، و النتيجة أخص من الكبرى، أو مساوية لها، وأعم من الصغرى أو مثلها، ولا تكون أخص منها، والحس يدرك المعينات أولا، ثم ينتقل منها إلى القضايا العامة. فيرى هذا الإنسان وهذا الإنسان، و كل مما رآه حساس متحرك بالإرادة، فنقول: العلم بالقضية العامة. أما إن يكون بتوسط قياس، والقياس لابد فيه من قضية عامة،فلزم ألا يعلم العام إلا بعام، و ذلك يستلزم الدور أو التسلسل، فلابد أن ينتهي الأمر إلى قضية كلية عامة / معلومة بالبديهة. وهم يسلمون ذلك، وإن أمكن علم القضية العام بغير توسط قياس، أمكن علم الأخرى. فإن كون القضية بديهية أو نظرية ليس وصفًا لازمًا لها يجب استواء جميع الناس فيه، بل هو أمر نسبي إضافي بحسب حال الناس، فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له، ومن احتاج إلى نظر واستدلال، كانت نظرية له، وهكذا سائر الأمور، فإذا كانت القضايا الكلية منها ما يعلم بلا دليل ولا قياس، وليس لذلك حد في نفس القضايا، بل ذلك بحسب أحوال بني آدم، لم يمكن أن يقال فيما علمه زيد بالقياس: إنه لا يمكن غيره أن يعلمه بلا قياس، بل هذا نفي كاذب. الوجه السابع: قد تبين فيمـا تقـدم أن قياس الشمول يمكن جعـله قياس تمثيل وبالعكس. فإن قيل: من أين تعلم بأن الجامع يستلزم الحكم؟ قيل: من حيث تعلم القضية الكبرى في قياس الشمول. فإذا قال القائل: هذا فاعل محكم لفعله، وكل محكم لفعله فهو عالم، فأي شيء ذكر في علة هذه القضية الكلية فهو موجود في قياس التمثيل، وزيادة أن هناك أصلا يمثل به قد وجد فيه الحكم مع المشترك، وفي الشمول لم يذكر شيء من الأفراد التي ثبت الحكم فيها، / ومعلوم أن ذكر الكلي المشترك مع بعض أفراده أثبت في العقل من ذكره مجردًا عن جميع الأفراد باتفاق العقلاء. ولهذا قالوا: إن العقل تابع للحس فإذا أدرك الحس الجزئيات، أدرك العقل منها قدرًا مشتركًا كليًا، فالكليات تقع في النفس بعد معرفة الجزئيات المعينة، فمعرفة الجزئيات المعينة من أعظم الأسباب في معرفة الكليات فكيف يكون ذكرها مضعفًا للقياس، وعدم ذكرها موجبا لقوته؟! وهذه خاصة العقل؛ فإن خاصة العقل معرفة الكليات بتوسط معرفة الجزئيات. فمن أنكرها أنكر خاصة عقل الإنسان، ومن جعل ذكرها بدون شيء من محالها المعينة أقوي من ذكرها مع التمثيل بمواضعها المعينة، كان مكابرًا. / وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس، فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم، كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل مثل ما فعلوا أصابه مثل ما أصابهم، فيتقى تكذيب الرسل حذرًا من العقوبة، وهذا قياس الطرد. ويعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك، وهذا قياس العكس، وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين، فإن المقصود أن ما ثبت في الفرع عكس حكم الأصل لا نظيره. والاعتبار يكون بهذا وبهذا. قال تعالى: و[الميزان] فسره السلف بالعدل، وفسره بعضهم بما يوزن به، وهما متلازمان. وقد أخبر ـ تعالى ـ أنه أنزل ذلك كما أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط، فما يعرف / به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان. وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات، فإذا علمنا أن الله ـ تعالى ـ حرم الخمر لما ذكره من أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، ثم رأينا النبيذ يماثلها في ذلك، كان القدر المشترك الذي هو العلة، هو الميزان الذي أنزله الله في قلوبنا لنزن به هذا ونجعله مثل هذا، فلا نفرق بين المتماثلين. فالقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر الله به. ومن علم الكليات من غير معرفة المعين فمعه الميزان فقط، والمقصود بها وزن الأمور الموجودة في الخارج، وإلا فالكليات لولا جزئياتها المعينة لم يكن بها اعتبار ،كما أنه لولا الموزونات لم يكن إلى الميزان من حاجة، ولا ريب أنه إذا حضر أحد الموزونين واعتبر بالآخر بالميزان،كان أتم في الوزن من أن يكون الميزان وهو الوصف الكلي المشترك في العقل، أي شيء حضر من الأعيان المفردة وزن بها مع مغيب الآخر. ولا يجوز لعاقل أن يظن أن الميزان العقلي الذي أنزله الله هو منطق اليونان لوجوه: أحدها: أن الله أنزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم، وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلاثمائة سنة، فكيف كانت الأمم المتقدمة تزن به؟! /الثاني: أن أمتنا - أهل الإسلام - ما زالوا يزنون بالموازين العقلية، ولم يسمع سلفًا بذكر هذا المنطق اليوناني، وإنما ظهر في الإسلام لما عربت الكتب الرومية في عهد دولة المأمون أو قريبًا منها. الثالث: أنه ما زال نظار المسلمين بعد أن عرب وعرفوه، يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقلية والشرعية، ولا يقول القائل ليس فيه مما انفردوا به إلا اصطلاحات لفظية، وإلا فالمعاني العقلية مشتركة بين الأمم، فإنه ليس الأمر كذلك، بل فيه معاني كثيرة فاسدة. ثم هذا جعلوه ميزان الموازين العقلية التي هي الأقيسة العقلية، وزعموا أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، وليس الأمر كذلك، فإنه لو احتاج الميزان إلى ميزان، لزم التسلسل. وأيضا، فالفطرة إن كانت صحيحة وزنت بالميزان العقلي، وإن كانت بليدة أو فاسدة لم يزدها المنطق إلا بلادة وفسادًا، ولهذا يوجد عامة من يزن به علومه، لابد أن يتخبط ولا يأتي بالأدلة العقلية على الوجه المحمود ومتى أتى بها على الوجه المحمود أعرض عن اعتبارها بالمنطق؛ لما فيه من العجز والتطويل، وتبعيد الطريق، وجعل الواضحات خفيات وكثرة الغلط والتغليط. فإنهم إذا عدلوا عن المعرفة الفطرية العقلية للمعينات إلى أقيسة كلية، وضعوا / ألفاظها وصارت مجملة تتناول حقا وباطلا، حصل بها من الضلال ما هو ضد المقصود من الموازين، وصارت هذه الموازين عائلة لا عادلة، و كانوا فيها من المطففين، والميزان التي أنزلها الله مع الكتاب ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشيء بمثله، وخلافه، فتسوى بين المتماثلين وتفرق بين المختلفين، بما جعله الله في فطر عباده وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف. فإذا قيل: إن كان هذا مما يعرف بالعقل، فكيف جعله الله مما أرسل به الرسل؟ قيل: لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف، فإن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل، ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية. فليست العلوم النبوية مقصورة على الخبر، بل الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الله علما وعملا، وضربت الأمثال فكمـلت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها، لما كانت الفطرة معرضة عنه، /أو كانت الفطرة قد فسدت بما يحصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة، فأزالت ذلك الفساد، والقرآن والحديث مملوءان من هذا؛ يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة، ويبين طريق التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله: والمقصود التنبيه على أن الميزان العقلي حق كما ذكر الله في كتابه، وليست هي مختصة بمنطق اليونان، بل هي الأقيسة الصحيحة المتضمنة للتسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول أو بصيغة قياس التمثيل،وصيغ التمثيل هي الأصل وهي الحمل، والميزان هو القدر المشترك وهو الجامع. الوجه الثامن: أنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا؛ الحسيات، والأوليات، والمتواترات، والمجربات، والحدسيات. ومعلوم أنه لا دليل على نفي ما سوى هذه القضايا ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرها ما جرت العادة باشتراك / بني آدم فيه وتناقضوا في ذلك؛ فإن بني آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات، فإنهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب ويرون جنس السحاب والبرق، وإن لم يكن ما يراه هؤلاء عين ما يراه هؤلاء وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد، وأما ما يسمعه بعضهم من كلام بعض وصوته، فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه، بل كل قوم يسمعون ما لم يسمع غيرهم، وكذا أكثر المرئيات. وأما الشم والذوق واللمس، فهذا لا يشترك جميع الناس في شيء معين فيه، بل الذي يشمه هؤلاء ويذوقونه ويلمسونه، ليس هو الذي يشمه ويذوقه ويلمسه هؤلاء، لكن قد يتفقان في الجنس لا في العين . وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس، فإنه قد يتواتر عند هؤلاء، ويجرب هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ويجربوه، ولكن قد يتفقان في الجنس كما يجرب قوم بعض الأدوية، ويجرب آخرون جنس تلك الأدوية فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب. ثم ـ هم مع هذا ـ يقولون في المنطق: إن المتواترات والمجربات والحدسيات تختص بمن علمها فلا يقوم منها برهان على غيره. فيقال لهم: وكذلك المشمومات والمذوقات والملموسات، بل اشتراك / الناس في المتواترات أكثر؛ فإن الخبر المتواتر ينقله عدد كثير، فيكثر السامعون له، ويشتركون في سماعه من العدد الكثير، بخلاف ما يدرك بالحواس؛ فإنه يختص بمن أحسه، فإذا قال: رأيت أو سمعت أو ذقت أو لمست أو شممت، فكيف يمكنه أن يقيم من هذا برهانًا على غيره، ولو قدر أنه شاركه في تلك الحسيات عدد، فلا يلزم من ذلك أن يكون غيرهم أحسها،ولا يمكن علمها لمن لم يحسها إلا بطريق الخبر. وعامة ما عندهم من العلوم الكلية بأحوال الموجودات هي من العلم بعادة ذلك الموجود، وهو ما يسمونه [الحدسيات]، وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية، والعلوم الفلكية، كعلم الهيئة، فهو من قسم المجربات وهذه لا يقوم فيها برهان؛ فإن كون هذه الأجسام الطبيعية جربت، وكون الحركات جربت، لا يعرفه أكثر الناس إلا بالنقل، والتواتر في هذا قليل. وغاية الأمر أن تنقل التجربة في ذلك عن بعض الأطباء أو بعض أهل الحساب، وغاية ما يوجد، أن يقول بطليموس: هذا مما رصده فلان، وأن يقول جالينوس: هذا مما جربته، أو ذكر لي فلان أنه جربه، وليس في هذا شيء من المتواتر. وإن قدر أن غيره جربه أيضًا، فذاك خبر واحد، وأكثر الناس لم يجربوا جميع ما جربوه، ولا علموا بالأرصاد ما ادعوا أنهم / علموه، وإن ذكروا جماعة رصدوا، فغايته أنه من المتواتر الخاص الذي تنقله طائفة. فمن زعم أنه لا يقوم عليه برهان بما تواتر عن الأنبياء، كيف يمكنه أن يقيم على غيره برهانًا بمثل هذا التواتر؟! ويعظم علم الهيئة والفلسفة، ويدعي أنه علم عقلي معلوم بالبرهان. وهذا أعظم ما يقوم عليه البرهان العقلي عندهم هذا حاله،فما الظن بالإلهيات، التي إذا نظر فيها كلام معلمهم الأول أرسطو وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم كانوا من أجهل الخلق برب العالمين، وأن كفار اليهود والنصارى أعلم منهم بهذه الأمور. الوجه التاسع: أن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه، بل الفراسة ـ أيضًا ـ وأمثالها، فإن أدخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات، لم يمكنهم نفي ما لم يذكروه ولم يبق لهم ضابط وقد ذكر ابن سينا وأتباعه أن القضايا الواجب قبولها التي هي مادة البرهان، الأوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات، وربما ضموا إلى ذلك قضايا معها حدودها، ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر؛ ولهذا اعترف المنتصرون لهم أن هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه، وإذا كان كذلك، لم يلزم إن كل ما لم يدخل في قياسهم لا يكون معلومًا، وحينئذ فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ؛ فإنه / إذا ذكر له قضايا يمكن العلم بها بغير هذا الطريق، لم يمكن وزنها بهذه الأدلة. وعامة هؤلاء المنطقيين يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم، وهذا في غاية الجهل، لاسيما إن كان الذي كذبوا به من أخبار الأنبياء. فإذا كان أشرف العلوم لا سبيل إلى معرفته بطريقهم، لزم أمران: أحدهما: ألا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس في قياسهم دليل عليه. والثاني: أن ما علموه خسيس بالنسبة إلى ما جهلوه، فكيف إذا علم أنه لا يفيد النجاة ولا السعادة؟! الوجه العاشر: أنهم يجعلون ما هو علم يجب تصديقه ليس علما، وما هو باطل وليس بعلم، يجعلونه علما، فزعموا أن ما جاءت به الأنبياء في معرفة الله وصفاته والمعاد لا حقيقة له في الواقع، وإنهم إنما أخبرو الجمهور بما يتخيلونه في ذلك، لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم، لا ليعرفوا بذلك الحق وأنه من جنس الكذب لمصلحة الناس، ويقولون: إن النبي حاذق بالشرائع العملية دون العلمية، ومنهم من يفضل الفيلسوف على كل نبي؛ وعلى نبينا ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ ولا يوجبون اتباع نبي بعينه، لا محمد، ولا / غيره؛ ولهذا لما ظهرت التتار، وأراد بعضهم الدخول في الإسلام قيل: إن [هولاكو] أشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بألا يفعل، قال: ذاك لسانه عربي ولا تحتاجون إلى شريعته. ومن تبع النبي منهم في الشرائع العملية لا يتبعه في أصول الدين والاعتقاد، بل النبي عدهم بمنزلة أحد الأئمة الأربعة عند المتكلمين، فإن أئمة الكلام إذا قلدوا مذهبًا من المذاهب الأربعة، اقتصروا في تقليده على القضايا الفقهية، ولا يلتزمون موافقته في الأصول ومسائل التوحيد. بل قد يجعلون شيوخهم المتكلمين أفضل منهم في ذلك. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بأسمائه وصفاته المعينة، وعن الملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار، وليس في ذلك شيء يمكن معرفته بقياسهم، وكذا أخبر عن أمور معينة مما كان وسيكون، وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم، لا البرهاني ولا غيره، فإن أقيستهم لا تفيد إلا أمورًا كلية، وهذه أمور خاصة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بما يكون من الحوادث المعينة حتى أخبر عن التتر الذين جاؤوا بعد ستمائة سنة من إخباره، وكذلك عن النار التي خرجت قبل مجىء التتر سنة خمس وخمسين وستمائة هـ، فهل يتصور أن قياسهم وبرهانهم يدل على آدمي معين أو أمة معينة، فضلًا عن موصوف بالصفات التي ذكرها؟ /ثم من بلاياهم وكفرياتهم أنهم قالوا: إن الباري ـ تعالى ـ لا يعلم الجزئيات، و لا يعرف عين موسى وعيسى ولا غيرهما، ولا شيئًا من تفاصيل الحوادث.والكلام والرد عليهم في ذلك مبسوط في موضعه. والمقصود أن يعرف الإنسان أنهم يقولون: من الجهل والكفر ما هو في غاية الضلال؛ فرارًا من لازم ليس لهم ـ قط ـ دليل على نفيه. الوجه الحادي عشر: أنهم معترفون بالحسيات الظاهرة والباطنة كالجوع والألم واللذة. ونفوا وجود ما يمكن أن يختص برؤيته بعض الناس كالملائكة والجن، وما تراه النفس عند الموت، والكتاب والسنة ناطقان بإثبات ذلك، ولبسط هذه الأمور موضع آخر. وإنما المقصود أن ما تلقوه من القواعد الفاسدة المنطقية من نفي ما لم يعلم نفيه، أوجب لهم من الجهل والكفر ما صار حاجبًا، وأنهم به أسوأ حالا من كفار اليهود والنصارى. الوجه الثاني عشر: أن يقال: كون القضية [برهانية] معناه عندهم: أنها معلومة للمستدل بها، وكونها [جدلية]، معناه كونها مسلمة، وكونها [خطابية] معناه كونها مشهورة أو مقبولة أو مظنونة، وجميع هذه الفروق هي نسب وإضافات عارضة للقضية، ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها، فضلا / عن أن تكون ذاتية لها على أصلهم، بل ليس فيها ما هو صفة لها في نفسها، بل هذه صفات نسبية باعتبار شعور الشاعر بها. ومعلوم أن القضية قد تكون حقًا. والإنسان لا يشعر بها، فضلا عن أن يظنها أو يعلمها، و كذلك قد تكون خطابية أو جدلية وهي حق في نفسها، بل تكون برهانية ـ أيضًا ـ كما قد سلموا ذلك، وإذا كان كذلك ،فالرسل ـ صلوات الله عليهم ـ أخبروا بالقضايا التي هي حق في نفسها، لا تكون كذبًا باطلًا قط. وبينوا من الطرق العلمية التي يعرف بها صدق القضايا ما هو مشترك. فينتفع به جنس بني آدم، وهذا هو العلم النافع للناس. وأما هؤلاء المتفلسفة، فلم يسلكوا هذا المسلك، بل سلكوا في القضايا الأمر النسبي فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل، وغير ذلك لم يجعلوه برهانيًا، وإن علمه مستدل آخر. وعلى هذا، فيكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة، ما ليس من البرهانيات عند آخرين، فلا يمكن أن تحد القضايا العلمية بحد جامع، بل تختلف باختلاف أحوال من علمها ومن لم يعلمها، حتى إن أهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التي يعلمونها ما لا يعلمها غيرهم، وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقتهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الأمر عليه في نفسه عند أهل كل صناعة من الحق والباطل، ومن الصدق والكذب، ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الآدميين، بخلاف طريقة الأنبياء؛ فإنهم أخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل / والصدق والكذب، فكل ما ناقض الصدق فهو كذب، وكل ما ناقض الحق فهو باطل؛ فلهذا جعل الله ما أنزله من الكتاب حاكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأنزل ـ أيضا ـ الميزان وما يوزن به، ويعرف به الحق من الباطل. ولكل حق ميزان يوزن به بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون؛ فإنه لا يمكن أن يكون هاديًا للحق، ولا مفرقًا بين الحق والباطل، ولا هو ميزان يعرف به الحق من الباطل. وأما المتكلمون فما كان في كلامهم موافقًا لما جاءت به الأنبياء، فهو منه. وما خالفه فهو من البدع الباطلة شرعًا وعقلا. فإن قيل: نحن نجعل البرهانيات إضافية، فكل ما علمه الإنسان بمقدماته، فهو برهاني عنده، وإن لم يكن برهانيا عند غيره. قيل: لم يفعلوا ذلك، فإن من سلك هذا السبيل لم يجد مواد البرهان في أشياء معينة، مع إمكان علم كثير من الناس لأمور أخرى بغير تلك المواد المعينة التي عينوها. وإذا قالوا: نحن لا نعين المواد، فقد بطل أحد أجزاء المنطق وهو المطلوب. الوجه الثالث عشر: أنهم لما ظنوا أن طريقهم كلية محيطة بطرق العلم الحاصل لبني آدم ـ مع أن الأمر ليس كذلك وقد علم الناس إما ـ بالحس وإما / بالعقل وإما بالأخبار الصادقة ـ معلومات كثيرة، لا تعلم بطرقهم التي ذكروها، ومن ذلك ما علمه الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ من العلوم ـ أرادوا إجراء ذلك على قانونهم الفاسد،فقالوا: النبي له قوة أقوى من قوة غيره، وهو أن يكون بحيث ينال الحد الأوسط من غير تعليم معلم، فإذا تصور أدرك بتلك القوة الحد الذي قد يتعسر أو يتعذر على غيره إدراكه بلا تعليم؛ لأن قوى الأنفس في الإدراك غير محدودة، فجعلوا ما يخبر به الأنبياء من أنباء الغيب إنما هو بواسطة القياس المنطقي، وهذا في غاية الفساد، فإن القياس المنطقي إنما تعرف به أمور كلية كما تقدم، وهم يسلمون ذلك، والرسل أخبروا بأمور معينة شخصية جزئية ماضية وحاضرة ومستقبلة، فعلم بذلك أن ما علمته الرسل لم يكن بواسطة القياس المنطقي. بل جعل ابن سينا علم الرب بمفعولاته في هذا الباب، تعالى الله عن قوله علوًا كبيرًا. وقد تبين بما تقرر، فساد ما ذكروه في المنطق من حصر طريق العلم، مادة وصورة، وتبين أنهم أخرجوا من العلوم الصادقة أجل وأعظم وأكثر مما أثبتوه، وأن ما ذكروه من الطريق إنما يفيد علومًا قليلة خسيسة لا كثيرة ولا شريفة، وهذه مرتبة القوم؛ فإنهم من أخس الناس علمًا وعملا، وكفار اليهود والنصاري أشرف علمًا وعملًا منهم من وجوه كثيرة، والفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل، /فضلا عن درجتهم قبل ذلك. وقد أنشد ابن القشيري في الرد على [الشفاء] لابن سينا: قطعنا الأخوة من معـــــــشر ** بهم مرض من كتاب الشفـا وكم قلت: يا قوم أنتم على ** شفا جرف من كتاب الشفـا فلما استهانوا بتنبيهنـــــــــا ** رجعنا إلى الله حتى كـفـى فماتوا على ديــن رسطالـس ** وعشــنا على ملة المصطـفى فإن قيل: ما ذكره أهل المنطق من حصر طرق العلم، يوجد نحو منه في كلام متكلمي المسلمين، بل منهم من يذكره بعينه إما بعباراتهم، وإما بتغيير العبارة. فالجواب: أن ليس كل ما يقوله المتكلمون حقًا، بل كل ما جاءت به الرسل فهو حق، وما قاله المتكلمون وغيرهم مما يوافق ذلك فهو حق، وما قالوه مما يخالفه، فهو باطل. وقد عرف ذم السلف والأئمة لأهل الكلام المحدث. قال: والعجب من قوم أرادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة وأقيستهم الفاسدة، فكان ما فعلوه مما جرأ الملحدين أعداء الدين / عليه، فلا الإسلام نصروا ولا الأعداء كسروا، ثم من العجائب أنهم يتركون أتباع الرسل المعصومين الذين لا يقولون إلا الحق، ويعرضون عن تقليدهم ويقلدون ويساكنون مخالف ما جاؤوا به من يعلمون أنه ليس بمعصوم، وأنه يخطئ تارة ويصيب أخرى، والله الموفق للصواب. قال السيوطي: هذا آخر ما لخصته من كتاب ابن تيمية. وقد أوردت عبارته بلفظه من غير تصرف ـ في الغالب ـ وحذفت من كتابه الكثير، فإنه في عشرين كراسًا. ولم أحذف من المهم شيئًا، ولله الحمد والمنة.
/قال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه: في ضبط كليات [المنطق] والخلل فيه بنوه على أن مدارك العلم منحصرة في الحد وجنسه من الرسم ونحوه وفي القياس ونحوه من الاستقراء والتمثيل؛ لأن العلم إما تصور وهو معرفة المفردات، وإما تصديق وهو العلم بنسبة بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات، وكل من العلمين إما بديهي لايحتاج إلى طريق، وإما نظري مفتقر إلى الطريق، وطريق التصور هو الحد، وطريق التصديق هو القياس الذي يسمونه البرهان ـ إن كانت مقدماته يقينية. ثم قالوا: الحد: هو القول الدال على ماهية الشيء، وإن كان يراد به نفس المحدود، كما أن الاسم هو القول الدال على المسمى ويراد به المسمى،/ إذ المفهوم من الحد والاسم هو المحدود والمسمى، كما أن [الماهية] هي المقولة في جواب ما هو،و يعبر عنها بأنها جواب ما يقال في السؤال بصيغة ما هو، فتكون الماهية هي الحد وهي ذات الشيء أيضًا، وهذه المصادر المشتقة من الجمل الاستفهامية مولدة مثل الماهية والمائية والكيفية والحيثية والأينية واللمية بمنزلة المصادر من الجمل الخبرية كالحولقة والقلحدة والبسملة والحمدلة ونحو ذلك. ثم قالوا: الماهية مركبة من الصفات الذاتية، وتكلموا على الفرق بين الصفات الذاتية والعرضية بأن الذاتية هي التي يمتنع تصور الموصوف إلا بتصورها، فالذات متوقفة عليها في الوجود والذهن كالتجسيم للحيوان، وما ليس كذلك فهو العرضي. ثم هو ينقسم: إلى لازم وعارض مفارق، واللازم إما لازم للماهية كالزوجية للأربعة، والفردية للثلاثة، وإما لازم لوجودها دون ماهيتها كالسواد للقار، والحدوث للحيوان. والعارض المفارق إما بطىء الزوال كالشباب والمشيب، وإما سريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الوجل، والمشكل هو الفرق بين الذاتي واللازم للماهية؛ فإن كلاهما لا يفارق الذات، لا في الوجود العيني ولا الذهني، / ففرقوا بينهما بأن الذاتي يسبق تصوره تصور الماهية، بحيث لا تفهم الذات بدونه بخلاف لازم الماهية. ثم كل من الذاتي والعرضي، إما أن يشترك فيه الجنس، وهو الجنس العام والعرض العام. وإما ينفرد به نوع وهو الفصل والخاصة، وإما أن يجمع بين المشترك والمميز وهو النوع، فهذه [الكليات الخمس] الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام. فالكلام في هذه الصفات وأقسامها غالب منفعته في الحدود والحقائق، وأما القياس، فإنه قول مؤلف من أقوال، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، ولابد فيه من مقدمتين و [المقدمة] هي القضية وهي الجملة الخبرية ولابد فيها من مفردين، فكان الكلام فيه في ثلاث مراتب: الأولى: الكلام في المفردات؛ ألفاظها ومعانيها لدلالة المطابقة والتضمن والالتزام، والأسماء المترادفة والمتباينة والمشتركة والمتواطئة والمفردة والمركبة والكلى والجزئي. والمرتبة الثانية: الكلام في القضايا وأقسامها؛ من الخاص والعام والمطلق، والإيجاب والسلب وجهات القضايا، وفي أحكام القضايا، مثل كذب النقيض، وصدق العكس، وعكس النقيض. /و المرتبة الثالثة: الكلام في القياس وضروبه وشروط نتاجه من أنه لابد فيه من قضية عامة إيجابية، وأن النتاج لا يحصل عن سالبتين ولا خاصيتين جزئيتين ولا سالبة صغرى وجزئية كبرى، بل إما موجبتان فيهما كلية، وإما صغرى سالبة وكبرى جزئية وغير ذلك من أحكام صور القياس وأنواعه، التي تتبين ببرهان الخلف المردود إلى حكم نقيض القضية، أو بالرد إلى عكس القضية أو عكس نقيضها. ثم بينوا بعد ذلك مواد القياس فقسموه إلى: برهانى: وهو ما كانت مواده يقينية ـ وحصروا اليقينيات فيما ذكروه من الحسيات الباطنة والظاهرة والبديهيات والمتواترات والمجربات، وزاد بعضهم الحدسيات. وإلى خطابي: وهو ما كانت مواده مشهورة يقينية، أو غير يقينية . وإلى جدلي: وهو ما كانت مواده مسلمة من المنازع، يقينية أو مشهورة أو غير ذلك. وإلى شعري: وهو ما كانت مواده مشعورًا بها غير معتقدة كالمفرحة والمحزنة والمضحكة. وإلى مغلطي سوفسطائي: وهو ما كانت مواده مموهة بشبه الحق.
|